سفر الحب.. منهج الكاتب محروس عامر في حب العالم
دراسة الأديبة / نجلاء احمد حسن
سفر الحب.. منهج الكاتب محروس عامر في حب العالم، يطل علينا محروس عامر بأفكار فلسفية، عن العشق وحالات العشاق بمراحلها المتنوعة ممتطيا سفينة الفلسفة، مبحرا في عالم الحب والتيه، مغرقا بأفكار قلما ما يتحدث ويبوح بها عاشق عن عالمه السري. وأقول عالمه السري ليس لسر علاقته بحبوبته بل هو لسر يحكيه هو عن حال العاشق مع ذاته وبين ذاته والعالم كله.
فيستهل كتابه سفر الحب بعتبة النص وهو العنوان حيث يضفي نوع جديد من فرض سيطرته الفكرية، منذ أول كلمة تطلعها به عين القارئ وهي العنوان سفر الحب. وسفر كلمة تعني كتاب مقدس، وكأنه يصنع بروتكولا خاصا به بين حديثه وبين العالم. وان الحب هو معنى مقدس وفكر سامي، وان كل من نال من بحر الحب فقد دخل عالم المشاعر المقدسة. وقوله بتعريف الحب بألف واللام هو إقرار بنوعية وقدسية هذا النوع الحيوي من المشاعر الإنسانية. كثيرا كنت افكر بتفسير لكلمة حب ولما عاشت تلك الحروف عبر التاريخ؟ بل واشتقت لها مراحل وأفكار وقصص وروايات وأفعال تفسرها بل علما وعالما. وتدل عليها حرفان هما الحاء والباء؛ وقد تدل على احد حروف كلمة الروح بكل معانيها السامية والمقدسة، وحرف الباء قد نجدها في كلمة البدن؛ وعند الجمع بينهما (روح بدن) فهي روح بدن المحبوب، حيث عبر محروس عن تعريفه للحب بقوله إن الحب إذا ما سكن القلب واستقر به…، تتوارى منه الكلمات، ويعبر عن نفسه بهتاف تسمعه الأرواح، وتكاد الأفعال أن تنطق حبا بلسان الحال، وينشغل القلب بمن حب فيكون مطيعا معطاء. فكل من ولد فقد تكون في لحظة حب وعاش فيه وسبح في قلب منح المحبة والحياة والتوثيق لتلك اللحظة المثمرة من حياة المشاعر المقدسة.
يبدأ محروس عامر كتابه بفصل بعنوان المرآة، وهو ما يلفت انتباهنا الى وظيفة المرآة وهي انعكاس الضوء على سطح زجاجي لامع وصاف، لصورة ما تراها العين وتميزها ان كان كيان إنساني او غير ذلك؛ ولكن ما اطالعه من فصل المرآة هي حالة رؤية العين كأحد أعضاء الحواس الهامة وهي نافذة روح للإنسان يرى بها نفسه كصورة فزيائية ثم رؤية روحية تفرض حالة من التأملات والمقارنات بين صورة العقل الذهنية للإنسان نفسه وبين صورته الحالية التي يراها فعليا في المرآة؛ فهي دوما يعتليها الدهشة والذكرى ومحاولة لرؤية الإنسان لمظهره وعمره وتداعيات الزمن على ملامحه؛ ولكن المرآة هنا في فكر محروس عامر تعني المواجهة. هي مرآة القلب التي يرى بها نفسه ومشاعره تجاه المحبوبة، التي سكنت غرف القلب وسيطرت على شوارع شرايين مسارات الحب بقلبه، فأصبح ينظر إليها داخل مسارات قلبه وعينه وعقله ووجدانه؛ معا والجديد بالذكر ان العلم اثبت في الآونة الأخيرة أن للقلب عقلا منفصلا عن العقل الذي يعلو الجسم في علبة الدماغ المحدودة؛ فعقل القلب يعي ويرى ويفهم مالا يفهمه العقل المتواضع صاحب السيادة على جميع الأجهزة الأخرى؛ صراع المرآة دوما ينحاز الى عيون القلب؛ يناظرها ويسعد بها؛ بل ويشتبك مع العقل ويجبره يقنعه بما يراه هو بتخصصه هو؛ وهو الحب والمشاعر المقدسة بل يرى محبوبته تطمئنه؛ بان كل تلك المظاهر لا تعنيها ولا تثنيها عن محبته من ص١٢ “ اترك مرآتك حبيبي، وها هي عيناي لتبصر صورتك الحقيقية، فماهيتكَ سَبقت وجودكَ وشمسكَ سبقتْ ضوْءَكَ وروحكَ سبقتْ كونَكَ، انظر إلى عينيّ ودعني أرى فيك ما تخفي مرآتك“.
وبعد أن انطبعت فكرة المرآة ومواجهة النفس قبل المظهر ومحبة حبيبته لكل تلك المتناقضات بين الممكن والمحال لعالم جديد، تسكنه الملائكة بأجنحتها البيضاء المنتشية في لوحة من ابدع الكاتب محروس عامر فقد هو يأخذك متأملا في لوحته التشكيلية الهادئة المغرقة في الرمزية مثل لوحة الهدوء على الشاطئ ذلك المكان المطمئن لأحبائه والملهم لهم بالكثير من مشاعر اشبه بعالم الذكريات الحميمة، بين دفء ضمة الحبيبة الروحية والتي جمعت في ثناياها كل سعادات الكون؛ ولا يهمل محروس وقع الموسيقى فأختار حبيبته آلة للعزف على موسيقاه الخيالية، التي تندمج مع صوت أمواج البحر الهادئة تارة والهادرة حينا اخر متجانس مع ايقاعات الحياة بحيوية، فلا حياة مع الركود والكسل.
وتهاجمه الذكريات التي تأخذ طبع خلود الزمن في ذاكرة المحب و يالها من حالة، تجتاح المحبين. فهي إما نور أو نار ففي البعد تكوي القلب، وتدمع العين وتصيب الأطراف بالبرودة والموت البطيء، بلو على مستوى العقل يصاب بالتيه والشرود والضياع والإنكار. ولكنها النور الذي يضيء حياة المحبين وقت القرب ونعيم الحياة مع المحب، متزامنا مع مناسبة عيد الحب الذي اختار محروس الظهور في وقته، تلك الحالة الثمينة لحالته ويبطئ إيقاع البحث عن رقم الحبيبة والتي يستمتع الكاتب بكل رقم فيه على حدة، فقد أحب كل تفصيلة تذكره بها رقما رقما وذكرى ذكرى، فها هو يكشف مداعبة حروف اسمها منصفا لكل ألحانها وتنهيداتها وقت القرب كطفل تعلق بصدر أمان أمه ولا ملجا إلا إليها والى حنانها.
اللقاء في سفر الحب المقدس ويتجدد الأمل بعد الحيرة والتناقض ولا يجد نفسه إلا مستمتعا بانتظار قدوم نور حبيبته ‘تلك الحلم الذي تتراقص له نشوة وفرحا وتتداعى الأفكار‘ وتبادل الحواس والمشاعر لذاك اللقاء الحاني، جمع فيه محروس استمتاع حواس النظر واللمس والشم والحان الحديث كلها تصب في وصفها كإحدى حوريات الجنة ذات الشعر الناعم الأسود، الذي يحرك عينه وقلبه وجوانحه فالهدوء هنا جمال وصفة وحالة.
ومن اللقاء يأتي التمرد على الواقع.. فلماذا يبقى على حياته التي تمزق أوصال قلبه، وتشعره كل لحظة بالضياع والحيرة، فلا هو تخلص من الذكرى، ولا تخلص من عذابه بل أصبح يتلذذ بذلك العذاب الذي يأنس به كدليل حياة الآن. ”سأشرع في انتزاع حبكِ من داخلي، سأقطع شرايين قلبي شريانا… شريانا، أقتلع أحلامي، ثم أنتزع رائحة عطرك من كتف القميص ومن أنفي ومن أركان الغرفة وأجمعها في زجاجات عطر مع رسائلك وأقذفها للموج علّهُ يحملها إليكِ.” ويراجع نفسه مرة أخرى بالاعتراف إن نشوة اللقاء وأحلامه قد تفوق اللقاء جمالا، حيث نتصور اللقاء بأشكال كثيرة. نهدى الورود، ونتبادل الكلمات والنظرات وترقص قلوبنا فرحا وتهدأ نفوسنا في معية الحبيب وإن ظل اللقاء حُلمًا وفكرة تراودنا فإن السعادة باللقاء تظل عالقة في قلوبنا وأفكارنا، “غدا موعدنا” هكذا قلتِ لي وهكذا قالت عيناك ووعدت باللقاء“.
وبعد اللقاء تأتي حالة التمرد حيث يستسلم الكاتب الى فكرة الاعتراف بالحب فقد على حبها على حالته المتمردة ففي صفحة من الكتاب ٣٨ ويأتي لقاء الحبيبة باختراق جدار الصمت المدوي بقلبه بين الغيرة ونار الصمت المتأججة بقلبه فالحياة ملازمة للعشق ويأتي السؤال الحيوي والذي لا يمله المحب “هل حقا تحبني؟” فأي كلمات تسبق ذلك الاعتراف لا تصنع عقدا او اتفاقا وأي تصرفات وسلوك قبل ذلك الاعتراف لا تجدي وقعا. فاقترابها هو النور والنار معا في لمسات كفيها وهي ذلك الطريق الذي يشق جبل الصبر نورا وحياة. وتتفتق بعده أنهار العشق اللا منتهي واللا منتمي الى هذا العالم الصعب البعيد عنه. ومن حالات العشاق ان تهدئ الرغبات وتضمن القلوب بالاطمئنان نجد حالة الفقد وكأنه قاسم مشترك لكل تلك المشاعر. فالفقد يقتل القلب في البعد ويعذبه والفقد مع الشغف هو أكثر صعوبة؛ وما بين الفقدان تتكاثر المشاعر والذكريات فالبعد والفراق يصنعان الحالة؛والإصرار على اللقاء الذي يصنع المزيد من الذكريات المغذية للروح قبل الجسد فيسرد محروس في ذلك حالة قلما ما حدثنا بها غيره. ويسرد الحالة بقوله.
“أشعلتُ لفافة تبغي وأطلقتُ سحابة من دخان، تبعتها رشفة قهوة من فنجان. وأنا أتفحصها بهدوء محاولا الغوص في عينيها فإني اعتدتُ السباحة في بحر يهما وألفتُ الغرق في محيطيهما. تذكرت حينما أحاطت ذراعي بخصرها وعندما كان يتكئ علي صدري صدرها، وحينما كنت أخوض غمار نارها وأتلذذ بالحريق، هممت أن أضمها .. ولكنني تمهلت، فرفقا بالغريق. ثم يوجه الحديث نحو أصدقائه في حالة من المشاركة للحديث عن فلسفة إدراك الذات التي ينفرد بها الإنسان بين المخلوقات ، فوفقا لنظرية التطور لداروين أو درجتها في السلسلة الغذائية ومدى استفادته من المخلوقات التي دونها وما يمثل بالنسبة للمخلوقات التي أعلى منه مرتبه. بينما يدرك الإنسان ذلك بقليل من الوعى فقد أنشأه الله مدركا لذاته، مدركا لكونه إنسان، يحمل قلبا وعقلا وأن لديه قدرة كبيرة على إيجاد العلة لتغيير طبيعة الأشياء لضبط ملائمتها لوظيفة جديدة يبتغيها.
فيحقق استقامة الأشياء في أداء الوظائف التي تخدم مشيئته بما في ذلك التسبب في الإخلال في اتساق الأشياء التي عجز عن استيعاب ترابطها وهذا هو المحرك لتطور الحياة البشرية وبناء الحضارة وهذا مجال لا يتسع المقام للخوض فيه. وبشيء من التفكير نجد أن للإدراك درجات، أن تدرك كونك إنسانًا ولست فراشة أو حيوان وأن تدرك أنك لست مجرد حصان يحلم أنه إنسان، ولمَّا يستفيق ليرجع لكونه حصانًا مرة أخرى. فهذه الدرجة الأولي من الإدراك. أما الدرجة الثانية فإدراكك لوجود الأشياء من حولك وعلة وجودها وما ستؤول إليه بمرور الزمن واستجابتها للمؤثرات من حرارة وضغط وغيرها. وأما الدرجة الثالثة فهي إدراكك لماهيتك أنت وعلة وجودك ورسالتك في الحياة وما يتوجب عليك فعله لتحقيق الغاية من الحياة في فسحة من الزمن الغير معلومة لك، وهذه معضلة أخرى أن تحقق غايةً في زمن غير معلوم لك ولا تدري متي سينادى المراقب بصوته الذى لا يقبل المناقشة ولا ينفع معه استجداء أن تترك قلمك وتسلم أوراق الإجابة وبها ما صنعت في تلك الفسحة التي قضيتها.”
المحبوبة في سرد محروس عامر
من هي تلك المحبوبة؟! في مستهل الكتاب يحدثنا محروس عن حبيبته التي يحبها وكيان امرأة ينظر من مرآة حبه لها نحو العالم فتارة أخرى أجده يتحدث عن تلك الطبيعة والبيئة التي تحدث فيه كل ذلك العشق المتأمل منها نحو العالم ثم اجده يحكي ذكريات أحضان أٌمه من منظور ذاكرة الحواس والمشاعر فهو يحس بدفء الحنان، ورائحة طبخ أمه وأيضا يأخذنا نحو أصابعها التي تتداخل بين شعيرات رأسه مسترخيا كطفل، او كرجل راشد ولكنه في كل لحظة يبحر بي على سفينة سفر الحب أجدني أبحث معه عن تلك المحبوبة التي تذكره بكل امرأة لمست في داخله نقطة ومساحة وعصب، فقد أحسست انه يخاطب المكان والزمان يحكي عن وجع البلدان العربية التي تتوجع و تئن و يسرد بعبقرية “يتجمع الوجع فيصنع قوسا أكبر يقذفني بعيدا حيث كان هنالك يوما (يمنا سعيدا) وكانت بلقيس هنالك تتبختر بجمالها الفاتن، ما أحزنك اليوم يا بلقيس على أحفادك وعلى قصور أمست رمادا. ما أطول وجعك يا وهران فلقد غادرت النسائم ليلك واستعمرت الذئاب ديارك فامتدت عبر الصحراء إلى درنة فانتحبت تونس ألما. إن الهموم تعدت مفهوم الفردية والحوادث اليومية أصبحت تقاس بمقاييس المسافات البعيدة وكونت غيمة تحجب نور القمر عن أرض كانت يوما مكسوة بالقمح والياسمين. كم كنت أحب سماع موسيقى أم درمان وشعراء السودان ومشاهدة رقصة الزول والزولة في الأعراس وكم انتشيت برائحة “الدلكة” والبخور هل تتذكرون نقوش الحناء على الأيدى السودانية، يوم كانت فقط سودانية وليست جنوبية ولا شمالية. ما بال خليجنا يتلون بعدما كان عربيا ولا ندرى هل سيبقى أم يصبح فارسيا؟ أم سيجف كما جفت طبرية؟! فرغم دموع الثكالى تجفُ طبرية ويبتلع العاصي مياهه وتتوارى جارة الوادي عن شرفتها خجلا، وتحتضن دمشق تاريخها كأم تحمى بصدرها الوليد وتقف وحيدة في وجه لصوص الإنسانية. ولاتزال بهية تقاوم أمراض العمر وتداوى طعنات أولادها حاملة مغزلها تغزل حريرا وتنسج تاجا لعروسة نيلها القادمة من بعيد ترتفع السيارة وتهبط، إنها المطبات الصناعية. ناهزت الساعة الثانية وخلت الشوارع من روادها وأغلقت المحلات أبوابها، وسكن الليل، كنت أطرب لأغاني فيروز وكنت أعيش الليل و”دقت الساعات تصحى الليل”، كان هنالك متسعٌ في القلب ليشعر بالجمال، كان هنالك شعاع من الأمل يشرق من بعيد. أما الآن فها هو ليلي يحاصرني ووحدتي تخنقني ولم أزل أبحث عن مكان. هل وجد أي منكم المكان الذى يذهب إليه؟! المكان الذى لا يكون وحيدا فيه؟ المكان الذى تكون فيه إنسانًا، فقط إنسان، فلقد تخلينا عن كل أحلامنا ولم نعد نطمح بأكثر من أن نكون بشرًا. ومن منكم لايزال مثلي لم يجد له مكانًا فليأت معي لنعيش وحدتنا سويا، ونجدل من أحزاننا مصباحًا ومزهرية، ونجعل من حطام آمالنا طاولة وأريكة، نتكئ عليها ونسمع فيها موسيقانا الشرقية، فنؤنس وحدتنا لعلّ وحدتنا تتركنا يوما وتذهب بعيدا، وعندها نرى ضوء القمر وتطفئ نسماتُ الليل ضوءَ مصباحنا المجدول من الوجع”.
سفر الحب هو دفتر أحوال المحبين وسرد حالة العشاق بين مراحله المختلفة فمن احب المرأة ومن احب الوطن ومن تأثر بحنان الام التي شكلت ذلك الوجدان الرومانسي مرسلا رسالة حب وسلام للعالم كله
أخشى بُعدك - جريدة كنوز عربية اي.جي
22nd أبريل 2024[…] غصون الحب التّي اعتادت منك أن ترويها.. يا سيدي أخشى أن يعتصرني الشوق ويهزمني الحنين في غيابك حيث أبدو كمدينة مهجورة […]