عيناك… والحب الابدي| خاطرة أدبية للكاتب محروس عامر
بقلم محروس عامر
حبيبتي، اكتب اليكِ اليوم وانا لست في أحسن حالاتي، فلا تنتظري مني ما اعتدتِ عليه من غزل ولا تٌمِيلي خدك منتظرة قطرات الندى من كلمات الشوق التي طالما أمطرتك بها. فاني اليوم شارد الذهن، مثقل بالهموم، فلعلك تقومي بدور الأم التي ألقى براسي فوق كتفها واتخلص من همومي ومن تيه افكاري وتهدأ مشاعري المتلاطمة.
وتابع الكاتب الدكتور محروس عامر تحت عنوان: “عيناك… والحب الابدي| خاطرة أدبية للكاتب محروس عامر”
لن اتركك كثيرا تتعجبين وتحاولين قراءة أفكاري كما اعتدتِ دائما كي لا تضيع محاولاتك هباءً منثورا. وأنتم أيضا أصدقائي هوينا، فطريقي اليوم عصي عن التوقع ومساري لا يقبل التتبع. لعلي الأن أتمكن من أن أقصّ عليكم ما اخشي ان اتذكره او أحدث به نفسي حيث راودني حنين جارف لأبي وأمي فلقد طال فراقي لهم ولم أزر قبرهم منذ شهور طويلة لعلها انشغالات الحياة او بعد المسافة أو لعلي خشيت مواجهتهما دون ان احمل اليهما ما يشعرهم بالفخر والتباهي بي فكما تعلمون جميعا ان ما مضى من شهور كنت اسير فيها في مسار دائري فلم أصل لشيء ولم اكف عن المسير. وصلت بعد بعض العناء الي قبرهما. مخْجلٌ ان أضلٌ طريقهما وهما لم يغفلا عني لحظة من قبل، لعلها طول مدة البعد او تغير ملامح الطريق فهنالك طرق ازدادت اتساعا واخر أصبحت اضيق وشجيرات نمت عاليا واعشابا قد اجتثت. سرت بين القبور المتشابهة الخالية من الناس الا ما ندر، بدأ الخوف يدب في جسدي فبدأت اتمتم آيات القرآن لكي يبقي ذهني حاضرا وفكري متيقظا حيث تذكرت ان المشي وحيدا وسط القبور قد يفقد الشخص بعضا من عقله او يصبه بشيء من المس فآنست نفسي بسورة الفاتحة ويس وآيات من البقرة ولعل القراءة جعلتني أواصل البحث واضعفت سيطرة الخوف على نفسي حتى وجدت القبر الذي تقطن فيه امي وجواره قبر ابي وأخي وعمي وجوارهم قبر يقطنه خالي وزوجته لماذا لم يعيشوا سويا في بيت واحد مثلما هم مجتمعون الان؟! ولما افترقوا ثم تجمعوا؟!
سلمت عليهم جميعا ووقفت أتلو بعض آيات القرآن كم مرت سنوات لم اركِ فيها يا امي، كم افتقد لضمة صدرك واناملك تداعب شعري ما اشهي رائحة الطبخ التي كانت تفوح من القدر تشي عما فيه وتسيل اللعاب، هل تعلمون أنى من يوم فراقها لم يشم انفي تلك الرائحة؟! كم انا مفتقدك يا ابي فمنذ رحلت أصبح ظهري مكشوفا اتلقى فيه كل يوم وابل من الطعنات لم تكن لتصيبني في وجودك فكنت انت الحامي والسند وكنت المرشد للطريق. ها انا أصبحت وحيدا أخوض خطوب الحياة اتعثر أحيانا وأسير أحيانا أخرى حتى انت يا أخي آثرت البقاء معهما عن وجودك معنا رحمكم الله جميعا. أسندت يدي على القبر وما لبثت ان جلست امامه ملصقا ظهري ورأسي بجدارة، لا يفصلني عنهم غير جدار ففي الداخل مباشرة هم قابعون، لا أملك الدخول لهم ولا يخرجون، نظرت للباب الخرساني المصمت الذي يقف متحديا في صمته، انه أكثر من باب انه برزخ بين عالم وعالم ويسمح بالمرور في اتجاه واحد.
بدأ الدفيء يتسلل لي وكأنما أمي وابي يحتضانني ويربطان على قلبي ويجففان حبات الدموع القليلة التي اغرورقت بها عيني وأبت ان تنزل منها. فهدأت نفسي واطمأنت وبادرت عيني تتفحص المكان فرأيت هذه الشجرة الوارفة تظلل المكان ونسائم الهواء العليلة تسري لا بردا ولا زمهريرا*. مددت قدماي واسترخيت أكثر، شعرت بألفة لم أعتدها في هذا المكان من قبل. فسابقا كنت آتي زائرا اما الان فأتيت الي مكاني الذي سأمكث فيه كثيرا. لا أنكر أنى أغبطهما على الجو البديع الذي يحيط بالمكان، جمال وهدوء لا يوجد في فيلا من فيلات التجمع أو الشيخ زايد. ازداد فكري شرودا وكأنما اخذتني سنة من نوم، تخيلته امامي … ليست له اوصاف محددة كي اصفه سمعت صوته وكأنما يولد أفكارا داخل فكري فلم يكن له صوت ولا صورة الا انه له هيبه تكاد تخر منها الجبال. وتيقنت في قلبي أنه ملك الموت.
بادرته: هل جاء يومي؟ فأجاب بلا نطق او صوت “عندما يأتي الأمر” تساءلتٌ: وهل هو قريب؟ قال: “من الكل” فتابعت بخوف: هل تأخذها بقسوة؟ وارتعدت فرائسي وشعرت بوقع حبات العرق تسري على جسمي. فجاءني الرد “بل آخذها لرحمان السماوات والأرض، آخذها الي حيث تنتمي الي الأبدية الموعودة” همهمتُ: لكنني أخشى؟ قال: “الأحرى بك أن تأمل، فرحمته سبقت عذابه وحلمه سبق غضبه”، وشعرت به وكأنما يجلس جواري ليحكي قصة أنني كنت هناك من قبل وان الروح نزلت كورقاء* بيضاء من عليين الي الأرض حيث سكنت الجسد متمنعة. وعلى الرغم من انها لا تنتمي له ولا للعالم الأرضي الفت الجسد واعتادت شهواته وملذاته وأصبحت تجزع من عوارضه وآلامه، لذلك حين يأتي موعد العودة تأبى ان تعود فلقد تناسيت عهدها الأول وطاب لها العيش مع طين يمشي على طين، وهنا فقط يأتي دوري لأخلصها مما تعلقتْ به ومما علق بها واجعلها تبصر ما حُجبَ عنها وتتذكر الحقيقة التي نسيتها فسرعان ما تتخلص مما تخيلته باقٍ ومما الفت وجودها معه راجية العودة الي حيث كانت والرجوع من حيث جاءت.
وفاجأني بشيء من اليقين: قصّرتَ؟ قلت بخجل: وأٌقرّ، قال برأفة: “اعندك ما يشفع لك؟” قلت: لم أظلِم ولم اقطع رحما ولم أقطف زهرا ولم أرهب حيوانا أو بشرا وحتى من ظلمني أخذته بالرأفة، وعندها شعرت بالضعف وانساب مني الدمع وتيقنتٌ أنى هالك!! فسألني بشيء من الحدة: “ما أكبر ذنبك؟ ” قلت: عشقتٌ. فرد بشيء من التهكم: عجيب امركم يا بني آدم! أومأت له مستأنسا: أو سنلتقي؟ فأسهب في الرد: “هنالك لا حجب ولا مسافات ولا سفر، هنالك يجتمع المحبون ويتآلفون ويمرحون ويلعبون وفي نعيم ربهم متنعمون”. فصدرت مني ابتسامة ولمع بريق الحب في عيني، وتماثلت أمامي عيناك المملؤة شوقا وحبا، فكلامه كأنه وعدٌ بلقاء من أحببت وبأنه هنالك لا شوق للحبيب ولا خصام ولا فراق أو بون*. وتخيلت حدائق غناء وشلالات مياه تتلألأ في ضوء بهيج. وحمَامات ملونة تتراقص فوق الاغصان وفواكه تقترب بغصونها مبتهجة وكأنما تبغي القطاف، وارواح تتجمع وتتفرق في انس وهيام وعشق واحد يجمعهم بلا غيرة ولا تنازع عشق لمن أودع في قلوبنا الحب واسكن فيه الخفقان.
رن هاتفي ونظرت فإذا بالشجرة الوارفة أمامي، ولامس النسيم خدي وقبل ان اترك المكان زرعت هناك شجرة صبار ورويتها ونظرت الي القبر أسلم علي من فيه وغادرت هذه المرة متأهبا لعود قريب. أحاول الأن ان أتذكر، لست أدرى ما اعتراني هو حلم؟ او خيال؟ او حقيقة؟ ولا أدرى هل أشعر برهبة أو متعة؟ فتداخلت كل المشاعر في قلبي وكل الأفكار في عقلي، فلم أجد الا انتِ اهرول اليك وألقي برأسي على كتفك.
ولازال فكري محيّرٌ، أو سنلتقي هناك؟ وهل ستكونين كما أنتِ جميلة؟ وهل ستظل عيناك مصدر سعادتي وستظل لقبي مأوى؟ وهل سأحبك كما احببتك أم سأحبك أكثر؟ … نسيتُ ان اسأله منْ منا سيعود أولا؟ ومن منا سيودع رفيقه؟ وأيضا كيف نخلص ارواحنا من التشبث بالدنيا؟ وكيف نجعلها تتذكر ما نسيت من حقائق، ولكنه .. غاد..! قبل ان أكمل أسئلتي فهل يا تري حبيبتي عندما يعود سأتذكر ان اسأله؟ وهل سيكون عندها للسؤال جدوى؟!
*الورقاء: هي الحمامة
*بون: الابتعاد و الفراق “بانت سعاد”
*الزمهرير: شدة الحر
عيناك والغيرة.. قصة بقلم محروس عامر - جريدة كنوز عربية اي.جي
31st مارس 2024[…] الكاتب الدكتور محروس عامر تحت عنوان: “عيناك والغيرة.. قصة بقلم محروس […]