سفر الحب ومكاشفات الرؤية بقلم أحمد الباسوسي
بقلم الدكتور/ احمد الباسوسي
“اخصائي الطب النفسي بالقصر العيني”
قراءة في مجموعة “سفر الحب” للكاتب الدكتور محروس عامر
الكاتب محروس عامر المولود في محافظة كفر الشيخ التي تقع في أقصى شمال مصر في دلتا النيل دلف الى مدينة الاسكندرية الساحلية التاريخية لدراسة الهندسة ويحصل على شهادتها ثم شد رحاله فورا الى مدينة القاهرة العريقة عاصمة ام الدنيا حاملا معه قلقا ورهبة عظيمين من جراء ما يمور داخله (وأعني عقله الواعي وغير الواعي) من تصارع بين حلمين ربما يقودان مستقبله وأيامه التي لم تبين ملامحها حتى هذه اللحظة. الحلم الأول يتعلق بهندسة الحاسوب ونظم معالجة البيانات والمعلومات. والحلم الثاني يتعلق بهندسة الكلمات والأفكار والمشاعر وخلق الأحلام.
كلا الحلمين يتعلق بالتحلق في سموات الفن والأحلام ولغة الابداع التي باتت خارج السيطرة. الشاب العاطفي الرومانسي الخجول، شديد الحساسية للواقع ومشكلاته وشديد التأثر بما يمور حوله من أحداث ووقائع، يرى ان نظام العدالة والرحمة فيها يكاد يختل، وان لغة المادة اتسع نطاقها بين الناس لدرجة انها أضحت تتملك احلامهم، كذلك تبين له ان ماكينة الطغيان والظلم لاتكف عن الدوران في محيطه الخاص والعام وتخلف غمامة تخفى أفق المستقبل لدى الشباب من امثاله، وتجهض كل ما تبقى من آمال غريزية طبيعية في الحب والحياة لدى شاب نحيل وحساس ورقيق وفنان. تواصل عقله الواعي واللاواعي في داخله بحثا عن حل لمشكلة المستقبل “الوجودية”.
أمره عقله الواعي هذه المرة بضرورة شد الرحال للمرة الثالثة الى قدره الذي آمل في يحل صراعا وجوديا داخله اذ ربما يدخل في طيوف من الأمان والتقدير الذي يستحقه، وتتحول الهندسة التي درسها في قاعات الكلية مرشدا حقيقيا لعقله الواعي في استخراج “كنوز” ما يستعر داخل عقله اللاواعي من مشاعر وأحاسيس عذبة ورقيقة قمعتها في السابق دفاعات القلق وغموض الأفق وتصارع حلمي الهندسة داخله. في الخليج تحقق التوازن والتصالح بين حلمين عاشا داخله وخارجه كل منهم يصارع الآخر من أجل البقاء.
تحققت المصالحة وخرج المبدع الفنان يحقق ذاته في عوالم هندسة الحاسوب والادارة، قادته موهبته الفطرية وقوة ذكائه وسماته الشخصية المميزة من طيبة وصدق والتزام وحساسية المبدع للمشكلات،والمثابرة وقدرة مناسبة على الحسم، وقدر مرتفع من الذكاء الاجتماعي من ان يحصل على التقدير الذي يستحقه ويحقق لنفسه مكانا ومكانة، وتوازنا داخليا انتصر من خلاله على الدفاعات النفسية التي طالما حاولت كبح جماح شخصية المبدع الفنان داخله ومنعها من الانطلاق وتحرير “كنوز” أو جواهر تلك الشخصية الدؤبة المثابرة الثائرة. بنفس القدر الذي نحررت فيه ملكاته الابداعية واتسع نطاق انشطته الابداعية الثقافية مثل مشاركاته في المؤتمرات الثقافية وادارة أو المشاركة في الصالونات الادبية، والندوات الثقافية ومناقشة ابداعات المبدعين المنشورة شعرا ونثرا، الى جانب اسهاماته المتميزة بالرؤى النقدية والتحليلية لقضايا في عالم الثقافة والأدب وعلوم الحاسوب والادارة، وأيضا القضايا الاجتماعية في البرامج التلفزيونية والاذاعية المهتمة.
كذلك اهتماماته بالتواصل مع قرائه عن طريق الصحافة وكتابة المقالات الثقافية والمتخصصة مهنيا. وأخيرا توجت هذه الأنشطة الثقافية المهمة بتأسيس جريدة كنوز عربية ورأس مجلس ادارتها، ذلك الموقع الأشهر الآن في عالم الثقافة والابداع والأخبار. ان التعامل مع شخصية مثل كاتبنا محروس عامر لايجوز فصلها عن نشاطاته المهنية والثقافية ومنتجه الابداعي. ان النص الابداعي انعكاس لما يعتمل داخل كاتبه من أفكار وخبرات ومشاعر وتطلعات وحتى أحلام.
وكاتبنا له اصدارين مطبوعين فقط، الاصدار الأول مجموعة خواطر قصصية بعنوان “عيناك”. صدرت عن دار لوتس عام 2019. والاصدار الثاني موضوع دراستنا عبارة عن نصوص سردية/شعرية بطعم القصة القصيرة عناونها “سفر الحب”. في 108 صفحة من القطع المتوسط تشتمل على ثلاثة عشر نصا بالاضافة الى ثلاثة دراسات نقدية بالاضافة الى نبذة قصيرة عن الكاتب والفهرس. وبدايتنا دائما تكون بالعنوان “سفر الحب” الكاشف لمعطيات مجمل النصوص تحت جناحيه.
وكلمة سفر قاموسيا تعني الكتاب، كما ان دلالتها وايحاءتها تتقمص معنى ديني، بما يشير الى قداسة ما سوف يرد حالا من نصوص ربما تأخذ طابع القداسة لدى كاتبها أو هكذا اراد الكاتب اخبار قرائه ان لديه سفرا في الحب كما لدى اليهود اسفار التوراة ولدى المسيحيين العهد الجديد (الانجيل) ولدى المسلمين كتاب (القرآن). الكاتب هنا اراد لفت انتباه قرائه بشدة بان لديه كتاب الحب المقدس، ومن منا لايؤمن بقيمة وقداسة الحب. تلك العلاقة الرائعة وهبة الخالق سبحانه وتعالي الى البشر التي منحها للبشرية لكي تظل نعمة الحياة مستمرة، وتجنيبهم خطر الفناء. واذا انتقلنا الى سائر نصوص المجموعة وربطا ما سبق ان ذكرناه، ما يتعلق بسمات الكاتب الشخصية وما اراد لفت انتباهنا اليه في عتبه أو عنوان مجمل النصوص يتبين لنا ما يلي..
اولا: ان الحب حالة سباحة داخل الذات، وانشغال ابدي بالزمن وآثار هذا الزمن ،كما في نصوص “المرآة” و “تناقض” حيث استحضار الذات وعشقها حينما تكون جميلة، والرعب من القبح وتغيرات الزمن غير المريحة (السيجارة والكرش). الفكرة المركزية في هذا النص الذي لايكشف نفسه لقارئه بسهولة ويسر تتمثل في ذلك التضاد. فالنظرة للذات في المرآة ربما تتعارض مع نظرة المحبوب العاشق. وكذلك فكرة عبثية الكون والوجود الفعلي الواقعي. فكرة التضاد تبدو مؤشر قوي لرغبة الكاتب في استعادة توازنه النفسي عن طريق المصالحة بين تلك الاضداد، وربما هذا ما فعله في حياته الشخصية في الماضى ولايزال. ان الكاتب اعتمد استخدام تكنيك يعتمد على الخاطرة والصورة الشعرية الفلسفية على حساب السرد التقليدي والدراما، يقول ”هاهي عيناي لتبصر صورتك الحقيقية، فماهيتك سبقت روحك، وروحك سبقت وجودك، وشمسك سبقت ضوءك، وروحك سبقت كونك، انظر الى عيني ودعني ارى فيك ما تخفي مرآتك”. وكما يقول ايضا ”أريدُكِ عاشقتي التي أمارس معها العزف؛ أداعب أوتارها متنقلا بين النغمات الغليظة والنغمات الرفيعة وبين الأصوات العالية والمنخفضة وأدق على طبولك إيقاعات بطيئة حالمة أتبعها بإيقاعات سريعة صاخبة”.
ثانيا: الحنين الى الأصل والأزمنة القديمة كما في نص “ذكرى لاتموت” وتلاعب الكاتب هنا بلغتي السرد والشعر وخلق نصا قصصيا بامتياز تشوبه رائحة الشعر الجميلة، هذا النص يعكس المدى المنفلت من سيطرة الكاتب (عالم اللاوعي) المتعلق بحنينه للعالم القديم وللعشق القديم وللزمن القديم، ولانستطيع ان نقول ان الكاتب يبكي على اطلاله مثل شعراء الزمن القديم بقدر ما نحترم مبلغ رقة الشاعر ورومانسيته لدرجة ان يرسم لوحة جميلة تنقله لحظات حميمية الى زمن بعيد وجميل يقول ”تصدر من صدري تنهيدة طويلة، أنظر ببطء لوردتي التي لم تزل في يدي وكأنما أراها لأول مرة، أعود لهاتفي واسمها المنقوش فوق الشاشة، آخذ نفسا عميقا من لفافتي ال كوبية وأغمض عيني فتصمت الكلمات داخلي… ويسقط الهاتف من يدي وتذبل الوردة، وأعود لحزني القديم”.
ثالثا: ان نص تمرد يمثل بحق حالة متفردة من الشجاعة والجرأة، حاول الكاتب خلالها ان يكشف عن تفاصيل خلجات عشقة، ومبلغ علاقته الحميمة بسيجارته، في مقابل عشيقته الأنثى البشرية. وكأنه يريد اخبارنا ان العشق مجرد “حالة ادمان” سواء للسيجارة أو الحبيبة. انه نوع مختلف من العشق يسكبه الكاتب في صفحات نصوصه سفر الحب. وعلى الرغم من حالة الدهشة لكن متابعة النصوص في المجمل تجعلنا نكتشف هذه الحالة من العشق أو الادمان للتبغ (اللفافة الكوبيه) لدى الكاتب أو السارد حيث لم يغيب هذا الأمر في صفحة واحدة من صفحات الكتاب يقول ”تراوغني لفافة تبغي وتباغتني، تتدلل فهي تدرك عشقي لها وترانى أبتسم حين تتدلل، غالبا أحب دلالها، ُ أستنشقها بعمق داخلي وأنفثها دخانا للأعلى وأعلن تمام انتصاري حين أقذف ما تبقى منها بعيدا منتشيا بانتصاري عليها، وما ألبث أن أشتاق إليها مجددا فأعود أبحث عنها … وتراوغني وتتدلل … ونكرر قصة كل يوم !!”.
رابعا: ان الحب يعني توحد الحبيب في محبوبه، يذوب فيه عشقا، يصبحان واحد لا اثنين. انها حالة من الوله الصوفي تغمر العاشق الغارق للثمالة في عشق محبوبه، حتى لو كانت سيجارة، يقول في نص “اعتراف” ”تقول لي دائما أنها تكتشف ذاتها وتعشق تفاصيلها وهي معي، أما أنا فأعشق تفاصيلها في كل الأوقات”. يالها من حالة رائعة من الوله والعشق الذي يحيي الارواح وينعش القلوب.
خامسا: نجاح الكاتب في خلق حالة مدهشة من التمازج بين كافة حالات وتجليات الحب المعنوية والحسية يقول في نص “هل تحبني” ”عليكِ أن تتيقنى أن حبي لك تعدى مرحلة التعبير بالكلمات، أو أن أمارس أمامكِ بعضَ الرقصات وأن أهديكِ باقةً من زهرات. إن حبك نهر يجري في شراييني، اجتاح كياني وفتحتُ له كل الأبواب، ومنذ عانقتك واشتعل الحريق”. ويقول ايضا ”وإذا ما احترتِ في أمري فلتسألى خصر ك عن كفي ولتسألى وردك عن لثمي ولتسألى هضابك وسهولك عن لهوي ولتسألى غمدك عن سيفي”.
سادسا: وكما يعكس اندماج العاشقين (شدة الجاذبية) توحدهما سويا أو اتحاد الروحين قد يحدث العكس ان تتلاشي الجاذبية بفعل فقدان الشغف وينفصلان الى كيانين مستقلين وربما متنافرين. ولايكون الانسان الكامل من فعل ذلك بل شبه الانسان، لأن الانسان الكامل لا يعرف سوى الحب، يقول السارد في نص “فقدان الشغف” ماذا تنتظرين من شبه إنسان، وشبه عاشق، وشبه مثقف، وشبه مناضل. لم أعد حبيبك الذي اعتدتي عليه، ولا فارسك الذي يثب لنجدتك. ابتعدى حبيبتي حتى لا أفقدك”.
سابعا: لاتزال النزعة الصوفية والتفلسف مسيطرة على تفكير وحروف الكاتب أو السارد والتي هي نتاج لسماته الشخصية التي ذكرناها آنفا ويتجلى هذا الأمر في نص ”ادركت الحقيقة” الذي يشي صراحة بشدة النزعة الصوفية لدى الكاتب، ونفاذ الوعي خلال البحث عن ماهية الخالق والتوحد بالخالق والمعشوق. أيضا يتميز السرد في هذا النص بالعقلانية ومخاصمة المشاعر الأمر الذي يشي بمبلغ الارتباك والقلق الذي يعيشه السارد، وفي نص “سنبقى معا” تستمر الأسئلة عن الموت والحياة . المنازل والقبور ورغبة خفية انسانية بحثا عن الونس واجتماع الأحبة في الدنيا مثلما يجتمعون في القبور؟ سؤال لايشغل سوى اولئك المحبين العاشقين للناس والحياة والحب.
ثامنا: لايزال السارد الكاتب يكشف عن طريقة مدهشة لافشاء الحب بين الجميع، (نص اعلنت الحب) فهو يدرك تماما انه يصنع كتابا في الحب وان رؤية الأشياء من أقصى ارتفاع تشبه كثيرا الرؤية في اخر العمر حيث تغيب التفاصيل المزعجة لحساب الرؤية الكلية الأجمل وتلك معضلة المثقف الواعي الذي تكربه اهتماماته بالتفاصيل فيظل ساخطا وغاضبا ومكتئبا طول الوقت عكس الانسان العادي صاحب النظرة الكلية، يقول ”إن الوجع يزداد بزيادة إدراكنا وتعمق أفكارنا، بل كلما أدركنا شيئا تولد فينا وجعٌ جديد، فأصبحت أوجاعنا متعددة” .
تاسعا: لم تنفصل هندسة علوم الحاسوب عن هندسة اللغة السردية والبناء الهندسي للنصوص وتشكيلاتها وكذلك الصور الشعرية الرقيقة المنحوتة باحكام في معظم نصوص المجموعة. فتشعر ان المهندس الفنان أو الفنان المهندس قادر بمنتهى الشاعرية والرقة على النفاذ الى عمق وجدانك ويستلب مشاعرك ويسحبك الى مناطق الجمال والحب والفرح الانساني الذي نكاد نفتقده في زماننا الحالي.
عاشرا: ان سفر الحب ليس مجرد كتاب في أو عن الحب بل سياحة داخلية في عوالم الحب والجمال والعشق والهيام والتوحد الذي بلغ حد التصوف. ولم يغب التناص التراثي الديني عن المشهد السردي لدى الكاتب واتضح مبلغ تأثره بالقرآن الكريم مثما فاضت ثقافته الموسوعية في الفلسفة والتصوف والعلوم على مدار النصوص. بقت مسألة لفافة التبغ الكوبية على مدار النصوص تمثل ازعاجا للمحبين والعشاق وتعكر نسبيا من روعة الصور الجميلة الملهمة.
ندوة نادي القصة لتكريم محمد القصبي - جريدة كنوز عربية اي.جي
17th أبريل 2024[…] ومشاركة وادارة الكاتب د. احمد الباسوسي […]
مي وجبران .. قصة عشق بقلم محروس عامر - جريدة كنوز عربية اي.جي
27th أبريل 2024[…] وجبران .. قصة عشق بقلم محروس عامر مي زيادة (1886-1941) أديبة وكاتبة عربية فلسطينية الاصل، وُلدت في مدينة الناصرة عام […]